"عملية بيانورا".. تحقيق يكشف اعتداءات جنسية على مئات المجندات خلال فحوصات الجيش البريطاني
"عملية بيانورا".. تحقيق يكشف اعتداءات جنسية على مئات المجندات خلال فحوصات الجيش البريطاني
في صدمة هزّت الأوساط السياسية والعسكرية في المملكة المتحدة، كشفت صحيفة "الغارديان" البريطانية عن تحقيق جنائي واسع النطاق يجريه جهاز شرطة ويلتشير تحت اسم "عملية بيانورا"، يتناول مزاعم بوقوع اعتداءات جنسية طالت مئات النساء خلال فحوصات التجنيد الطبي في الجيش البريطاني على مدى أكثر من خمسة عقود.
ويغطي التحقيق الذي وُصف بأنه من أوسع التحقيقات الجنائية العسكرية في تاريخ البلاد، الفترة الممتدة من سبعينيات القرن الماضي وحتى عام 2016.
وتشير مصادر مطلعة إلى أن عدد الشكاوى المقدمة بلغ “عدة مئات”، رغم تحفظ الشرطة ووزارة الدفاع على إعلان أرقام دقيقة حتى الآن.
شكاوى متراكمة
انطلقت الشرارة الأولى للتحقيق حين بدأت مجموعة من النساء المتقاعدات من الخدمة العسكرية أو اللواتي خضعن سابقاً لفحوصات التجنيد، تقديم بلاغات متشابهة تفيد بتعرضهن لتحرش أو اعتداء جنسي أثناء الكشف الطبي الإلزامي في مراكز الجيش، ودفعت هذه الشهادات شرطة ويلتشير، بالتعاون مع فرق مختصة من الشرطة العسكرية والمدنية، إلى فتح تحقيق رسمي شمل مواقع تجنيد متعددة في مختلف أنحاء بريطانيا.
وأكد المفتش دارين هانانت، كبير ضباط التحقيق، أن الادعاءات تشير إلى وقوع جرائم امتدت لعقود في مواقع مختلفة، ما يعني أن القضية ليست حوادث فردية معزولة بل ربما منظومة من التجاوزات المتكررة، وأضاف أن فريقه يتابع عدة خطوط تحقيق ويعمل على تحديد هوية المشتبه بهم، دون استبعاد احتمال تورط أكثر من فاعل.
وأعادت هذه القضية إلى الأذهان تاريخاً من الصمت والخوف الذي واجهته المجندات داخل المؤسسات العسكرية في بريطانيا، فقد كشفت دراسة صادرة عام 2021 عن لجنة الدفاع في البرلمان البريطاني أن أكثر من 60% من النساء في القوات المسلحة أفدن بتعرضهن لشكل من أشكال التمييز أو التحرش خلال خدمتهن، في قالت 11% إنهن تعرضن لاعتداءات جنسية صريحة.
وتعكس هذه الأرقام اتجاهاً مقلقاً بشأن ضعف آليات الحماية داخل المؤسسة العسكرية، حيث تهيمن ثقافة التسلسل والانضباط التي تثني الضحايا عن الإبلاغ خوفاً من الانتقام أو فقدان المسار المهني.
وقالت إحدى الضحايا في تصريحات نقلتها وسائل إعلام بريطانية: لم أكن أصدق أنني تعرضت لاعتداء أثناء فحص يفترض أنه طبي، لم أتكلم لسنوات لأنني كنت أخاف ألا يصدقني أحد، اليوم فقط أشعر أن العدالة ربما تكون ممكنة.
ردود فعل رسمية
سارع وزير الدفاع البريطاني، لوك بولارد، إلى الإشادة بشجاعة الضحايا اللاتي كشفن عن تجاربهن، مؤكداً في بيان على منصة "إكس": أي ادعاء من هذا النوع يجب التحقيق فيه بدقة وشفافية، لا يمكن لأي شخص يخدم وطنه أن يتعرض للإساءة تحت أي ظرف.
كما أعربت وزيرة شؤون المحاربين القدامى، لويز ساندر-جونز، عن دعمها الكامل للمجندات المتضررات، مؤكدة أن وزارة الدفاع ستوفر كل السبل اللازمة لتأمين العدالة والدعم النفسي.
وفي المقابل، أكدت هيئة الأركان العامة للجيش البريطاني، على لسان نائب رئيسها الفريق ديفيد إيستمان، أن الجيش يلتزم سياسة عدم التسامح مطلقاً مع أي شكل من أشكال العنف أو التحرش، وأن نتائج التحقيق ستكون حاسمة في تحديد المسؤوليات.
اختبار لمصداقية الإصلاح
أثارت القضية موجة من القلق في أوساط المنظمات الحقوقية، إذ اعتبرت منظمة العفو الدولية أن هذه الانتهاكات تكشف هشاشة نظم المساءلة داخل المؤسسات العسكرية في بريطانيا، ودعت الحكومة إلى ضمان أن يُجرى التحقيق بآلية مستقلة وشفافة تضع الضحايا في صلب العملية العدلية.
كما أكدت منظمة مراقبة حقوق الإنسان أن ما جرى يجب ألا يُعالج بوصفه قضية إجرامية فقط، بل أزمة بنيوية تتعلق بثقافة السلطة داخل الجيش، مشيرة إلى أن النساء في الخدمة العسكرية ما زلن أكثر عرضة للعنف الجنسي بخمسة أضعاف مقارنة بنظيراتهن في القطاع المدني.
بدورها، أعربت مفوضة الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان عن قلق بالغ إزاء ما وصفته بـ النمط الممنهج للاعتداءات الجنسية في البيئات المغلقة، مذكّرة المملكة المتحدة بالتزاماتها بموجب اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.
التداعيات الإنسانية والنفسية
تُظهر شهادات الضحايا أن الأثر النفسي لهذه الاعتداءات يتجاوز حدود التجربة الفردية، إذ تعاني العديد من النساء من اضطرابات ما بعد الصدمة، والعزلة، وفقدان الثقة في المؤسسات الرسمية، وتشير منظمات الدعم النفسي للمحاربين القدامى إلى أن “النساء اللواتي تعرضن للعنف الجنسي أثناء الخدمة العسكرية هن أكثر عرضة للانتحار بنسبة 60% مقارنة بباقي المجندات”.
وفي هذا السياق، قالت الطبيبة النفسية كارولين ماكري، المتخصصة في علاج الصدمات العسكرية، إن الكشف المتأخر عن هذه الجرائم قد يكون مؤلماً، لكنه خطوة أساسية نحو التعافي الجماعي للمؤسسة العسكرية نفسها.
يؤكد خبراء القانون الدولي أن المملكة المتحدة مُلزمة وفق المواثيق الدولية بالتحقيق في جرائم العنف الجنسي، ولا سيما في المؤسسات الرسمية، فبموجب اتفاقية مناهضة التعذيب، تُعد أي ممارسة تتضمن اعتداءً جنسياً من قبل موظف عمومي أو في سياق سلطة الدولة انتهاكاً خطيراً لحقوق الإنسان يستوجب المحاسبة.
ويرى باحثون في المعهد البريطاني للقانون الإنساني أن التحقيق الجاري يشكل فرصة لإعادة بناء الثقة بين الجيش والمجتمع، بشرط أن يُدار بشفافية تامة وأن تُمنح الضحايا الحماية الكاملة.
إرث من الانتهاكات
لم تكن هذه المرة الأولى التي تُثار فيها قضايا مشابهة داخل الجيش البريطاني، ففي عام 2021، كشفت لجنة مستقلة أن بيئة التمييز والتحرش لا تزال متجذّرة في قطاعات متعددة من الجيش، وأوصت بإنشاء هيئة مستقلة لتلقي الشكاوى، كما سبقت ذلك فضائح مماثلة في تسعينيات القرن الماضي داخل البحرية الملكية، حيث أُدين عدد من الضباط بارتكاب جرائم اعتداء على مجندات حديثات.
هذه السوابق تُبرز الحاجة إلى إصلاح شامل للسياسات الداخلية المتعلقة بالفحص الطبي والتجنيد، وتعزيز الرقابة المدنية على المؤسسات العسكرية.
تتجه الأنظار اليوم إلى نتائج عملية بيانورا التي قد تُشكل نقطة تحول في تاريخ العلاقة بين الجيش البريطاني والنساء العاملات فيه، إذ تعهدت وزارة الدفاع بمراجعة الإجراءات الخاصة بالفحوصات الطبية، وتدريب الطواقم الطبية العسكرية على معايير السلوك المهني والأخلاقي.
لكن منظمات المجتمع المدني ترى أن الإصلاح الحقيقي لن يتحقق إلا بسن تشريع واضح يجرّم التستر على الاعتداءات داخل المؤسسات العسكرية، ويضمن حق الضحايا في العدالة والإنصاف دون خوف أو تمييز.










